يقول: (وذلك فسق تسقط به الشهادة، ويستوجب الحد من القتل أو التعزير، ومع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات إذا كان عنده المعرفة)، فهو مؤمن ولو لم يأت بالواجبات، فالإيمان عندهم في الحقيقة هو الإيمان الباطن.
ومذهب جهم أن الإيمان هو المعرفة، وفي الحقيقة ليس هناك فرق واضح بين كلام البغدادي ومذهب جهم وإنما هو فصّل المعرفة: معرفة كذا وكذا، ومعرفة الشرائع، فيظهر لنا أن مذهبهم هو مذهب جهم ، والإقرار باللسان عندهم ثمرته والمقصود منه أحكام الدنيا، وفي الأخير يختلفون هل هو شرط لإجراء الأحكام، أو علامة على إجراء الأحكام؟ والمقصود: أن هذه هي منزلة العمل عندهم.
ولذلك يقع التناقض في كلامهم، ولو سألناهم وقلنا لهم: لو أن أحداً اعتقد في الأمور القلبية العلمية الاعتقادية -أي: مجرد المعرفة- اعتقد خلاف عقيدتكم في النبوات، أو في صفات الله، أو في التوحيد كما تسمونه، أو العدل، فإنه على كلامه يكون كافراً، فهل هم فعلاً يكفرون من فعل ذلك؟
فإذا فعلوا ذلك فقد شابهوا الخوارج وغيرهم في أن ما يؤصلونه هو الإيمان، ومن اعتقد خلافه فهو كافر، فهم من ناحية فروا من إثبات العمل -رغم ما جاء فيه من النصوص- فوقعوا في إثبات ما لم يثبته الله، واشتراط ما لم يشترطه الله من أمور العدل والتوحيد .. إلى آخره؛ فجعلوها ديناً من لم يعرفه فهو كافر، فعرضوا عقائد المسلمين للخطر؛ بناءً على هوى وتحكم ما أنزل الله به من سلطان.
فالإيمان المجمل عند أهل السنة والجماعة يكفي، ثم بعد ذلك كلما علم الإنسان شيئاً مفصلاً وجب عليه الإيمان به، لكن على كلامهم هم -مع أن كثيراً من عقائدهم باطلة- إذا اعتقد خلاف عقائدهم فقد كفر، فهذا فيه غاية الإحراج على الأمة، وهم لا يكفرون أهل البدع الذين يخالفونهم، فهم مضطربون في التكفير، فبعضهم يقول: لا نكفر إلا من كفرنا، وبعضهم يقول: نكفر من خالف في بعض الأصول دون بعض.. إلى آخره.
إذاً فهذا أيضاً مما يلاحظ في كلامهم من الاضطراب في هذا الأمر.